Translate

نظريات التنشئة الإجتماعية


تحتل النظرية العلمية مكانة متميزة في أي بحث علمي سواء كان هذا البحث يدخل في ضمن الدراسات العلمية أو الإجتماعية وتعرف النظرية على أنها " نسق فكري إستنباطي متسق حول ظاهرة أو مجموعة من الظواهر المتجانسة يحوي إطار تصوريا ومفاهيم وقضايا نظرية توضح العلاقات بين الواقع وتنظيمها بطريقة دالة وذات معنى، كما أنها ذات بعد إمبريقي بمعنى إعتمادها على الواقع ومعطياته وذات توجيه تنبؤي يساعد على تفهم مستقبل الظاهرة ولو من خلال تعميمات إحمالية .
إنطلقا من هذا التعريف وإذا ما حاولنا تطبيق هذا الأمر على موضوع التنشئة الإجتماعية نجد بأنها عرفت إسهاما كبيرا من طرف العلماء والباحثين من حيث تعدد الآراء حول تعريفها وأبعادها وحدودها وبدايتها ونهايتها …إلخ. وسنتناول فيما يلي أبرز النظريات التي حاولت تفسير عملية التنشئة الإجتماعية .
1. نظرية التحليل النفسي :
يتزعم هذه النظرية سيغموند فرويد حيث يرى أن جذور هذه التنشئة الإجتماعية عند الأفراد تكمن فيما يسميه بالأنا الأعلى الذي يتطور عند الفرد بدءا من الطفولة نتيجة تقمصه دور والده الذي هو من نفس جنسه فهو يرى أن الطفل يولد بالهو أي يمثل مجموعة من الدوافع الغرائزية وهم الطفل الوحيد إشباعها ولكنه أثناء نموه يتعرض سواء من طرف والديه عادة أو غيرهم من القائمين في المجتمع أن يقفوا في طريق إشباعه لهذه الغرائز في محاولة لتطبيعه وتنشئته على قبول قوانين المجتمعه ومساعدته على تحقيق التقبل الإجتماعي والإندماج بيسر في مجتمع الراشدين ونتيجة لعملية الضبط هذه يتحول جزء من الهو إلى مايسميه فرويد بالأنا الأعلى وهو ما يسمى بالضمير، هذا الأخير الذي يعمل على إخضاع مطالب اللذة للتحكم وفق معايير المجتمع ويرى فرويد أن كل ما يجده الفرد في الأنا صعبا للتحقيق يكبت ويحول إلى ما يسميه فرويد اللاشعور والتي تجد لها تعبيرا في الأحلام والشرود إضافة إلى ما تسببه من متاعب كثيرة ومشكلات عقلية وإجتماعية ونفسية.
إن عملية التنشئة الإجتماعية أو التطبيع الإجتماعي عند فرويد هي عملية نمو و تطور فهي عملية نمو حتمية وأساسية متداخلة فيما بينها وذات تأثير بالغ في شخصية الفرد مستقبلا، ومن أهم هذه المراحل :
* المرحلة الفمية : وتبدأ هذه المرحلة من الولادة حتى النصف الثاني من السنة الأولى، فشخصية الطفل ونمط علاقاته تتحدد بمدى تعلقه بأمه وبمدى إشباعه لحاجاته الفمية من رضاعة وفطام وفي هذا الصدد يقول إيرين بوسلين(Erin Bouslan )" إن الطفولة التي يجد فيها الطفل رعاية وإشباعا لشؤونه سوف تعطي الطفل إحساسا بالطمأنينة المريحة في العالم الذي يحيط به بحيث يراه مكانا آمنا يعيش فيه وليس مكانا باردا أو مكانا معاديا لا بد أن يحمي نفسه منه "
* المرحلة الشرجية : وتقع هذه المرحلة بين العام الثاني والثالث من عمر الطفل فيها المتعة واللذة ، نتيجة تعلمه ضبط الإخراج ويحظى في هذه المرحلة بحب وقبول والديه ، وتلعب التنشئة الأسرية في هذه المرحلة دورا مهما من حيث درجة التأثير على شخصية الطفل ونموه الإجتماعي ونوع علاقاته مع الآخرين .
*المرحلة القضيبية : وتغطي هذه المرحلة العام الرابع والخامس من عمر الطفل ، حيث نجده يهتم بأعضائه التناسلية بإعتبارها مصدرا للإشباع واللذة، والظاهرة الرئيسة في هذه المرحلة هي عقدة أوديب حيث يرتبط الذكر بأمه راغبا في الإستئثار التام بحبها. أما البنت فترتبط إرتباطا قويا بأبيها وتحس بالغيرة والعدوانية إتجاه أمها . وعلى أي حال فإن كل من الذكر والأنثى يكبت مشاعره نحو والده من الجنس الآخر خوفا من العقاب وفقدان الحب
* مرحلة الكمون : وفي هذه المرحلة يتعلق الطفل بالوالد " إبن ، أب " " بنت ، أم " وبالتالي فإنه يتقمص دور أحد الوالدين ، كما يمتص بعض المعايير التي يؤكدان عليها، ومن خلال هذا التقمص ينشأ الضمير" الأنا الأعلى" وبالتالي نجد أن الشخصية تتطور تدريجيا من الهو إلى الأنا ثم إلى الأنا الأعلى ( الضمير) والذي يعد بمثابة مراقب للسلوك .
* المرحلة الجنسية التناسلية : والتي تبدأ مع مرحلة البلوغ فقد يواجه المراهق في هذه المرحلة ظروفا غير مواتية ومحبطة في حياته، تدفع به إلى النكوص والإرتداد إلى الإعتماد الزائد أو أية صورة من صور الإشباع ، وقد تؤدي الدوافع الجنسية المتبعة إلى التصادم مع معايير السلوك عند الأنا العليا مؤدية إلى صراع داخلي شديد.
من خلال ما سبق ذكره نجد أن نظرية التحليل النفسي، ترى أن التنشئة الإجتماعية تتضمن إكتساب الطفل لمعايير وسلوك والديه وعن طريق أساليب التنشئة الإجتماعية كالثواب والعقاب يتكون لدى الطفل الضبط الداخلي أو الضمير الموجه لسلوك الطفل ثم الفرد فيما بعد، وبذلك يعتبر التقليد إذا من أبرز أساليب التنشئة الأسرية في نظر فرويد. (1)



(1) رابح حروش. أساليب التنشئة الأسرية وإنعكاساتها على المراهق.رسالة ماجيستير.قسم علم الإجتماع. بباتنة.
2. نظرية التعلم الإجتماعي :
يعتبر التعلم القاعدة الأساسية لنظرية التعلم الإجتماعي، ويعتبر الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى من أقدر المخلوقات على التعلم وأكثر حاجة إليه وذلك لما للتعلم من فائدة في حياته، باعتبارهعملية دائمة ومستمرة وخاصة في عملية التنشئة الإجتماعية،التي ينظر إليها أصحاب هذه النظرية على أنها ذلك الجانب من التعلم الذي يهتم بالسلوك الإجتماعي عند الفرد ، فهي عملية تعلم ( اي تنشئة إجتماعية ) لأنها تتضمن تغيرا وتعويدا في السلوك وذلك نتيجة التعرض لممارسات معينة وخبرات، كما أن مؤسسات التنشئة الإجتماعية تستخدم أثناء عملية التنشئة الإجتماعية بعض الوسائل والأساليب في تحقيق التعلم سواء كان بقصد أو بدون قصد.
وحسب هذه النظرية، فإن التنشئة الإجتماعية عبارة عن " نمط تعليمي يساعد الفرد على القيام بأدواره الإجتماعية ،كما أن التطور الإجتماعي حسب وجهة نظر هذه النظرية يتم بالطريقة نفسها التي كان فيها تعلم المهارات الأخرى، ويعطي أصحاب هذه النظرية أهمية كبرى للتعزيز في عملية التعلم الإجتماعي أمثال دولارد(Dolard) و ميلر(Miler) بحيث يذهبان إلى أن السلوك الفردي يتدعم أو يتغير تبعا لنمط التعزيز في تقوية السلوك، أما باندورا (Bandora)و ولتزر(Walter) فالبرغم من موافقتهما على مبدأ التعزيز في تقوية السلوك إلا أنهما يشيران إلى أن التعزيز وحده لا يعتبر كافيا لتفسير التعلم أو تفسير بعض السلوكات التي تظهر فجأة لدى الطفل، ويعتمد مفهوم نموذج التعلم بالملاحظة على إفتراض مفاده أن الإنسان ككائن إجتماعي يتأثر باتجاهات الآخرين ومشاعرهم وتصر فاتهم وسلوكهم ، وينطوي هذا الإفتراض على أهمية تربوية بالغة، آخذين بعين الإعتبار أن التعليم بمفهومه الأساسي عملية إجتماعية .
ويرى باندور " أن الناس يطورون آراءهم حول أنواع السلوك التي سوف توصلهم إلى أهدافهم ويعتمد قبول أو عدم قبول آرائهم على النتائج التي تتمخض على هذا السلوك عن طريق الثواب والعقاب ، معنى هذا أن هناك الكثير من تعلم السلوك يحدث عن طريق ملاحظة سلوك الآخرين ونتائج أفعالهم وإنطلاقا من هذا ، فإن الفرد لا يتعلم نماذج السلوك فقط بل قواعد السلوك أيضا، ويقترح هذا العالم ثلاثة مراحل لتعلم بالملاحظة وهي :
* تعلم سلوكات جديدة : يستطيع الطفل تعلم سلوك أو سلوكات جديدة عن طريق النموذج الموجود أمامه فعندما يقوم فرد ما باستجابة جديدة لم تكن من قبل في حصيلة ملاحظته فإنه يحاول تقليدها غير أن باندور يأكد على أن الملاحظ لا يتأثر بالنماذج الحقيقية الملاحظة أمامه فقط بل يؤكد على أن التمثيلات الصورية الموجودة في الصحافة والتلفاز والسنما تقوم مقام النموذج الحقيقي كذلك.
* الكف والتحرير : ومفادها أن عملية الملاحظة قد تؤدي بالطفل إلى الكف والتحرير عن بعض السلوكات أو الإستجابات وتجنبها وخاصة إذا واجه نموذج صاحب السلوك عواقب ونتائج سلبية غير مرغوب فيها من جراء إنغماسه في هذا السلوك، وقد تؤدي عملية ملاحظة السلوك أيضا إلى تحرير بعض الإستجابات المكفوفة أو المقيدة وخاصة عندما تكون نتائج السلوك إيجابية وبالتالي فهي تدفع بالطفل إلى إيتيانها والقيام بها إذا ما إقتضت الضرورة .

* التسهيل : تؤدي عملية التسهيل إلى تسهيل ظهور بعض النماذج السلوكية ، أو الإستجابات التي قد تقع في حصيلة الملاحظ السلوكية، التي تعلمها على نحو مسبق، إلا أنه لم تسمح له الفرصة لإستخدامها بمعنى أن السلوك النموذج يساعد الملاحظ على تذكر إستجابات مشابهة " فالطفل الذي تعلم بعض الإستجابات التعاونية ولم يمارسها يمكن أن يؤديها عندما يلاحظ بعض الأطفال منهمكين في سلوك تعاوني وتختلف عملية التسهيل السلوك عن عملية تحريره، فالتسهيل يتناول الإستجابات المتعلمة غير المكفوفة ، أما تحرير السلوك فيتناول الإستجابات المقيدة أو المكفوفة التي تقف منها التنشئة الإجتماعية موقفا سلبيا، فيعمل على تحريرها بسبب ملاحظته نموذج يؤدي مثل هذه الإستجابات دون أن يصيبه سوء .

3. نظرية الدور الإجتماعي :
يقصد بالدور الإجتماعي لدى رالف لينتون " أن المكانة عبارة عن مجموعة الحقوق والواجبات، وبأن الدور هو المظهر الديناميكي للمكانة، فالسير على هذه الحقوق والواجبات معناه القيام بالدور، ويشمل الدور عند لينتون الإتجاهات والقيم والسلوك التي يمليها المجتمع على كل الاشخاص الذين يشغلون مركزا معينا .
في حين يعرف كوتول الدور بأنه : " سلسلة إستجابات شرطية متوافقة داخليا لأحد أطراف الموقف الإجتماعي، تمثل نمط التنبيه في سلسلة إستجابات الآخرين الشرطية المتوافقة داخليا بنفس المستوى في هذا الموقف. "
وعليه يمكن القول وفق هذه النظرية أن الدور ثمرة تفاعل الذات والغير، وأن الإتجاهات نحو الذات هي أساس فكرة الدور، وتكتسب عن طريق التنشئة الإجتماعية وتتأثر تأثرا كبيرا بالمعايير الثقافية السائدة ، كما تتأثر بخبرة الشخص الذاتية ، ولهذا حاولت نظرية الدور تفهم السلوك الإنساني بالصورة المعقدة التي كون عليها باعتبار أن السلوك الإجتماعي يشمل عناصر حضارية وإجتماعية وشخصية.
يكتسب الأطفال الأدوار الإجتماعية المختلفة من خلال علاقات مع أفردا لهم مغزى خاص بالنسبة لحياة الطفل : ( الأم والأب والإخوة )
إن عملية إكتساب الأدوار الإجتماعية بصفة عامة ليست مسألة معرفية فقط، بل هي إر تباط عاطفي يوفر عوامل التعلم الإجتماعي وإكتساب الأدوار الإجتماعية من خلال ثلاثة طرق هي :
* التعاطف مع الأفراد ذوي الأهمية وهم المحيطين بالطفل، وتعني قدرة الطفل على أن يتصور مشاعر أو أحاسيس شخص ما في موقف معين
* دوافع الطفل وبواعثه على التعلم .. فالطفل يحرص على التصرف وفق ما يتوقعه أبواه ويجتنب ما لا يقبلانه.
* إحساس الطفل بالأمن والطمأنينة وهذا الشعور يجعل الطفل أكثر جرأة في محاولة تجريب الأدوار الإجتماعية المختلفة ، وخاصة في مجال اللعب.
وعليه فإن لكل فرد دور يعد بمثابة مركز إجتماعي يتناسب مع الأداء الذي يقوم به . يكتسب الطفل مركزه ويتعلم دوره من خلال تفاعله مع الآخرين وخاصة الأشخاص المهمين في حياته، الذين يرتبط
بهم إرتباطا عاطفيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق